…حروفية – الحروف العربية المنفصلة لكميل حوّا أشكالها الفريدة جعلتني أتوقف عن محاولة وصله
“أنا لم أشأ أن أفصل بين الحروف، لكن بعدما بدأت برسمها جاءت أشكالها على درجة من الفرادة ما جعلني أتوقف عن محاولة وصلها حفاظًا على رونق كل حرفٍ بذاته؛ وقد تبعتها الأرقام برونق خاص أيضًا”. هذا ما قاله الفنان التشكيلي والمدير العام لـ”المحترف السعودي” كميل حوا بعدما نشر بضع صور على موقع “انستغرام” لفونت جديد هو في صدد إنجازه. “تشكيل”، وهو الإسم الذي منحه للفونت هذا، مصممٌ خصّيصاً لاستخدامه كحرف العناوين في مجلة للفنون التشكيلية داخل المملكة العربية السعودية.
المفارقة أن “تشكيل” منفصل الحروف. لا أعني فحسب أن ثمة فراغًا بين كل حرفين، بل أن ثمة تصميمًا موحدًا لشكل الحرف بغض النظر عن موقعه في الكلمة، سواء أتى في بداية الكلمة أم في منتصفها أم في نهايتها أم أتى بمفرده. وذلك بخلاف المعهود في الاحرف العربية المتصلة. حرف العين مثلًا لديه في العادة أربعة أشكال بحسب المواقع الأربعة: ع ععع، إلا أن لديه في “تشكيل” شكلاً واحداً بغض النظر عن موقعه في الكلمة، وهذا الأمر ينطبق على جميع أحرف الفونت.
فكرة الحروف العربية المنفصلة ليست بجديدة، بل فيها محاولات عدة بدأت في منتصف القرن التاسع عشر، وتبلورت أكثر ما تبلورت مع نصري خطار، وهو مهندس ومصمم لبناني تركز عطاؤه في منتصف القرن الماضي، لكنه ووجه بحملة انتقادية قاسية. الجدير بالذكر انه وحوّا يشتركان بكونهما من متخرجي الجامعة الأميركية في بيروت. في رصيد كميل حوّا، وهو مصمم وفنان تشكيلي، جوائز عدة في تصميم الحروف الطباعية، آخرها العام الماضي من نادي كبار مصممي الحروف TDC من نيويورك، كما انه صاحب المنحوتة الحروفية التي تقف باسم “بيروت” في منطقة “زيتونة باي”.
في مراسلتي معه بخصوص “تشكيل”، يقول حوا إنه رغب في “تحقيق جمالية عالية في هذا الفونت تعزيزاً للنفَس التشكيلي لماكيت المجلّة”، وانتهى “بتصميم حروف العناوين منفصلة بهذا الشكل الفني”؛ وهو في ذلك لا ينفي أن خطار كان في خلفية تفكيره عندما صمم الفونت، لا سيما أن “منشورات خط” للنشر أصدرت منذ سنتين سيرة حياة ودراسة لنتاج خطار. إلا أنه لا يعتبر أن خطار كان في “مقدمة تفكيره”، إذا صح التعبير، بمعنى أن “تشكيل” لم يكن مستوحىً من أعماله ولا كان فصل الحروف هو الفكرة المحورية في التصميم، بل أن التصميم انطلق ببساطة من حرف الصاد وبنى عليه. من جهة، أعجب حوّا بكون الحرف يحكي لغة الـ”آر ديكو”، كون شكله الخارجي قريبًا من المستطيل ذي الزوايا المستديرة، وقد كان هذا شكلًا رائجًا في تلك الحقبة. من جهةٍ ثانية، لاحظ حوا أن الصاد التي صممها صاد “إقتصادية”، بمعنى أنها ترسم في ضربة واحدة عين الصاد وسنّها، وقادرة على أن تقف بمفردها أينما كان في الكلمة. يمكننا القول إن انفصال الحروف ما هو إلا أحد العناصر التصميمية التي تجلت شيئاً فشيئاً خلال التجارب الأولية، إلى أن قرر حوا أن يبلورها ويجعلها إحدى ركائز التصميم. على الصعيد الشخصي، أعتقد أن في الفونت قيمة نحتية إذا صح التعبير، وهو أمر يعود إلى كون حروفه “تقف بمفردها”، أي منفصلة، كما ألفت القارئ إلى حرف الهاء، كونه يشبه الوردة الجورية.
ينتمي “تشكيل” إلى خانة الفونتات القليلة التناقض في السماكة، بمعنى أنه ليس هناك من فارق كبير بين السميك والرفيع في الضربات الأفقية والعمودية، وهو في الإجمال فونت سميك. المثير للاهتمام فيه أن هذه السماكة مدروسة بحيث أن المساحات السوداء فيه هي شبه مساوية للمساحات الفارغة، أكان داخل الحرف الواحد أم بين الحرف والآخر، ما يعوّض عن تناقض السماكات فيه بتناقض الأسود والأبيض. لعبة الأسود والأبيض يمارسها حوا تحديدًا في بعض الحروف التي تنغلق عادةً على نفسها كالفاء والميم، والتي لا تنغلق على نفسها تمامًا في فونته، ما يُنتج خطًا أبيض رفيعًا يفصل بين نقطة انطلاق الحبر ونقطة نهايته، وهذا أحد العناصر البصرية التي نراها في الخطوط الكوفية المغربية، وإن لم تكن هذه الأخيرة في وعي حوا عندما صمم فونته. فكرة الانغلاق غير المكتمل تتجلى أبرز ما تتجلى في أرقام الفونت، ولا سيما في الأرقام 6 و 8 و 0 و 9، أما الرقمان 2 و 5 فيمثلان اختمارًا لفكرة الأقواس الواسعة على صعيد بطون الأحرف، وهي فكرة تتجلى مجددًا في حرف الصاد.
في ما يختص بهيكل “تشكيل”، فإنه هيكلٌ بسيط، بمعنى أنه مماثل لنظيره اللاتيني من حيث اقتصاره على ثلاثة ارتفاعات لا غير: إرتفاع الهامات، والعيون، والهوابط. الغريب أنه على الرغم من حداثة الفونت، وحتى تحديه للعناصر التقليدية للخط العربي، إلا أن فيه روحًا “خطوطية” قوية، وإن لم يكن خطوطيًا بمعنى الانتماء إلى إحدى المدارس التقليدية للخط، لأن تصميم الحروف منبثق من حركة اليد، ما يفسر كونه سهل القراءة نسبيًا. أقول “نسبيًا”، لأنه في نهاية المطاف فونت معدّ للعناوين، لا لتنضيد النصوص الصغيرة الطويلة، وفي كل الأحوال من الظلم أن نقارن مقروئية هذا الفونت بالفونتات النسخية مثلًا، لأن مقروئية الفونتات هي نتاج قرون من التعوّد الجماعي على أشكالٍ معينة للحروف، تاليا هي ليست من سمات الفونتات الإختبارية، ومنها الفونتات المنفصلة مثل “تشكيل”، كونها تأتي إلى العين بأشكالٍ جديدة.
هل من مستقبل للأحرف العربية المنفصلة؟ ليس الأمر مستبعدًا، ولا سيما إذا ما قارننا بين حال الفكرة نفسها منذ خمسين عاما واليوم: منذ خمسين عاما، كانت شركتان أميركيتان عملاقتان هما “فورد” و”آي بي إم” تدعمان خطار في الترويج لفكرته، والأمر لم يكن مؤامرة أميركية مثلما يحلو للبعض أن يصدق، بل كانت الشركتان ببساطة مقتنعتين بأن الفكرة استثمارٌ من شأنه أن يدر أرباحًا تجارية في ما بعد. كرس خطار حوالى العشرين عامًا من حياته لهذا المشروع، من دون أن يلقى صدىً حقيقيًا؛ أما اليوم، وبالرغم من عدم وجود تمويلٍ من أي جهة محددة، وفضلًا عن حوا، فإن يارا خوري وهي أيضًا من أسرة المحترف وپاسكال الزغبي تصممان الخطوط المنفصلة، بالإضافة إلى بضعة طلاب في كل دفعة لبنانية من متخرجي التصميم الغرافيكي سنويًا، وأشدد على أن الظاهرة فضولية عفوية محضة.
الحروف المنفصلة هي نتيجة تطور طبيعي حدث في تاريخ الحرف اللاتيني، من هنا فمن الممكن أن يكون عمل حوا إحدى بوادر هذه النزعة في الحرف العربي أيضًا. يحضر بالطبع السؤال المعهود عن مدى ملاءمة كل الظواهر لكل الأنظمة الكتابية على السواء، إلا أنه حري بنا أن نترك الإجابة عن هذا السؤال للتاريخ نفسه.
أحمد عثمان
10 أيلول 2016
No Comments