
جرس إنذار: لا تتركوا الجريدة تسقط من يد بيروت ولا من يدي
هل حين نتخلى عن الجريدة ننتقل من قراءة في وسيلة الى القراءة في وسيلة اخرى أم ننتقل من القراءة في الجريدة الى اللاقراءة !
مثّل هذا التوقف المفاجئ لجريدة الاتحاد، بُعَيد الظهور المفاجئ لها أصلاً، حدثاً أشبه بجرس إنذار أُطلق سهواً. نقول سهواً بسبب القصر المستغرَب لمدّة الصدور. لفتنا هذا الجرس إلى خطر محدق بدأنا ندرك وجوده من زمن، ولا نفعل أي شيء لتلافيه. وكأنه قدر. فقد جدّد التذكير بأن وهناً ما يصيب الصحافة في لبنان، كان قد سبقه الإقفال الثاني، وعلى ما يبدو للأسف الإقفال النهائي، لجريدة “السفير”، إضافة إلى ظواهر ضمور لصحف أخرى بسبب صعوبات مادية في نوعية الورق تارة، وعدد الصفحات تارة أخرى، ومنها هذه الجريدة.
يتزامن هذا كله مع تعرض الصحف اليومية والمجلات الورقية، وصولاً إلى الكتاب في العالم، إلى صعوبات وتحديات مشابهة. فالهجمة الإلكترونية التي بدأت تأثيراتها منذ نحو عقدين من الزمن، زعزعت النشر الورقي بأشكاله كافة، وشغلت الناس عن أشياء كثيرة ومنها القراءة. حتى النشر الورقي، بقدر ما تضرر من هذا الاكتساح المفاجئ، أخذ ينضم إلى المستفيدينمما وفّرته بالتأكيد. بل راحت الصحف تكتسب مهارات متزايدة في التعامل مع الظاهرة الإلكترونيّة أو الرقمية كي تعزز مصادرها إلى درجة أنها أدخلت تطويرات متجددة تجعلها تقوم على وجود ورقي رقمي مزدوج. ولكن ثبت أن النبوءة باختفاء النشر الورقي عن بكرة أبيه كانت نبوءة متعجّلة، وبداية بعدما أكّد الكتاب الورقي أفضليته واستمراريته، وبعد عمليات إنقاذ وانتصار لصحف يومية ومجلات أسبوعية عديدة.
بيروت بحاجة للصحافة
على رغم الاعتراف بالإضافة الهائلة والقيمة التي وفرتها الهجمة الرقمية (الإنترنت وغيرها)، فإن السماح بأفول تام للصحافة الورقية والقراءة الورقية عموماً سوف يمثل خسارة جسيمة لا تعوَّض، تكاد تنذر بولادة عالم مختلف على المدى البعيد؛ عالم مجافٍ لأهمّ مكونات الحضارة الإنسانية؛ عالم بلا صحف ومجلات، قليل الكتب. ودون التمادي في هذا التخيّل لتشاؤمي، ستكون لمثل هذا الأفول آثار في بعض البلدان أشد وقعاً من غيرها. وبلدنا من بين الأشد تضرراً. من هناتأتي هذه الدعوة للتمسّك بالجريدة اليومية بكل ما أوتينا من قوة دفاعاً عمّا يميّز هذا البلد وعاصمته بيروت، مدينة الصحافة والطباعة.
تقدم الصحافة مساهمة أساسية في دعم الحياة الثقافية وهي أهم مرتكزات حرية الرأي، والدفاع عن التنوع والاختلاف. إلى هذا، هي مكوّن أساسي من شخصية المدينة وعبقريتها، إذا جاز التعبير. فبيروت عاصمة عربية إعلامية بامتياز، كما درج الوصف، لكنها خسرت الكثير من مكانتها خلال السنوات السود. فلكي تستعيد دورها كاملاً، تحتاج إلى صحف ومجلّات. و تحتاج إلى صحافيين يمدّون الإعلام العربي بكفاءات قديرة. كانت بيروت أبهى بمجموع صحفها الأولى في الخمسينيّات والستّينيّات. بعضها أقفل بسبب الظرف الصعب الذي خلّفته سنوات الاقتتال الأهلي، وبعضها ولد مثل “السفير” و”المستقبل” و”الجمهورية” و”البلد” و”الأخبار” وغيرها. لكن الإقفال الْيَوْمَ هو غير إقفال الأمس. إن جزءاً من بيروت ضاع مع إقفال جريدة “السفير”. وماذا يبقى من العاصمة إذا أقفلت “النهار” وهي من أعرق المؤسسات. ومن يتصور بيروت من دون جريدة “النهار” ومن دون صحافتها؟ وما شارع الحمراء في بيروت من دون أكشاك الصحف والمجلّات والكتب المنشورة على أرصفته؟!
ليس دفاعاً عن الجريدة فقط
إن قراءة الجريدة في الحقيقة هو خط دفاع أوَّل عن قراءة الكتاب، والكتاب بدوره خط دفاع أخيرعن القراءة بمفهومها الكامل. فالهدف النهائي للتمسّك بالجريدة هو التمسك بالقراءة. لأن ما يهدد الجريدة ليس فقط إعراض الناس عنها بذاتها، بقدر ما هو، على ما يبدو شبه انسحاب تدريجي من عادة القراءة. وليس هناك قولان في أن ضمور قراءة الجريدة هو دليل انحسار في القراءة عموماً، وبالتالي دليل انحسار في الثقافة.
هنا نسأل: هل نحن حين نتخلى عن الجريدة ننتقل من القراءة في وسيلة، إلى القراءة في وسيلة أخرى، أم هو انتقال من قراءة الجريدة إلى اللاقراءة؟! وعلى رغم انتشار القراءة على الشاشات الرقمية في مختلف نماذجها ومقاساتها، وما أكثرها، فإنها أقل كمّاً من القراءة الورقية بالتأكيد، وذلك لشبه استحالة المضي في القراءة باليسر الذي نقراء به على الورق. كما أنها لن ترقى في غالبها إلى القراءة الحقيقية في الجريدة الورقية والمجلة والكتاب. ولن يجني القارئ منها هنا ما كان يجنيه هناك. والقول أن الوسائل الجديدة للأخبار كالإنترنت تحل محل الجريدة الورقية غير صحيح. فقراءة الخبر المستعجل أو الخبرية الاجتماعية أو المعلومة المفيدة ليست الأساس في القراءة التي كان لها دور بالغ الأهمية في إثراء العقول والنفوس على مر العصور وفِي التطور الحضاري في كل مكان.
اللقاء مع جريدتك اليومية
ليست هناك أي وسيلة تعطينا ما تعطينا إياه الجريدة اليومية. ومن يدّعون عكس ذلك هم إما جاهلون وإمّا متجاهلون. العلاقة بقراءة الخبر والرأي وتأمل الصورة وتعليقها والوصول إلى رسمة الكاركاتور كلها وغيرها تجعل من قراءة الجريدة تجربة شخصية معرفية وحسّية فريدة لا تُستبدَل ولا تعوَّض. أنت أمام أداة إعلامية تقلّبها بيديك، تفتحها تطويها، فتكتشف بالصدفة خبراً شيّقاً هنا، ورأياً نافذاً هناك.
الجريدة منذ لحظة استلامها وحملها واستعراض مانشيت الصفحة الأولى ثمّ الأخبار وأعمدة الرأي ومقالات التحليل والصور والتعليقات والزوايا الكبيرة والصغيرة والكاركاتور تمثّل في مجموعها تجربة تفاعلية فريدة: رائحة ورقها واتساع صفحاتها وأحجام عناوينها المختلفة وتتابع أقسامها. لَك الاختيار في ما تقرأ وكم تُمضي مع كل خبر. يصبح لك في جريدتك المفضلة محلل وكاتب عمود وزوايا مفضلة. فقراء الجريدة المحترفون يُمضون مع جريدتهم جلسة كاملة، تشبه وتيرة الرحلة في انطلاقة البداية وخاتمة العودة. فقد تبدأ بصفحتها الأولى وتنتهي بالأخيرة، وقد تتواتر بين الصفحات حسب الأهواء والرغبات. لكنها دورة كاملة يأتي من بعدها اكتفاء تام، فتطوى الجريدة باحترام ويبدأ النهار. كثير ممّا ينطبق على الجريدة، ينطبق على المجلة، وكذلك ينطبق من بعض الجوانب على الكتاب.
الجريدة والمدينة
الجريدة البنت البارّة للمدينة المعاصرة. كائن حي ينتشر في أرجائها ويمد شوارعها وبيوتها والمكاتب فيها وطبعاً المقاهي بباقة شيقة كل صباح. الجريدة عنصرحاضرمن كيان مدينة أو من كياندولة أو حتىبيئة دولية كاملة. يذكر من كانوا يتابعون تطور الإعلام أنه حين وصل التلفزيون إلى ذروته أواخر الستينيات، طرح مكلوهان نظريته الجريئة الثاقبةالتي قالت إن الرسالة في الوسيلة. بمعنى أن كل وسيلة إعلاميةتحمل ضمن ما تنشره، مهما كان مضمونه، مضموناً آخركأنه غير منظور أو يصعب تحديده. كل وسيلة تبث نمطاً من الأمزجة والمفاهيم الاجتماعية يؤثّر في الناس وكأنه يُدخل تعديلا في الإطار الوجودي ويغيّر مواقعهم دون أن يغيّر مواقفهم أو اقتناعاتهم الذهنية. فرضية مكلوهن لديها الْيَوْمَ، حقل من الاختبار، أعظم عشرات المرات من التلفزيون إياه. بدءا بالإنترنت، أو الوسائل الجديدة، والإيميل والوب. ثم يظهر “الفيسبوك” ويطغى، حاملاً رسالة في الوسيلة، وفِي “تويتر” وتغريداته رسالة في الوسيلة وفِي الـ “واتس أب” وفي “مسنجر” و “انستغرام”. القائمة لا تنتهي. تختلف هذه الوسائل نسبياً عن التلفزيون ووسائل الاعلام الأخرى في أن الناس هم الذين ينشرون في الغالب، وهم الذين يتلقٌون. كأن كما الوسيلة واحدة كذلك الرسالة للمرسل والمتلقي على حدٍّ سواء. فالأرجح أنه في وسائل الاتصال الاجتماعي كما درجت تسميتها تأثيرها ذاته على الاثنين دون تمييز. وغدت تلتف حولنا هذه الوسائل والرسائل وتحيط بِنَا بشكل يكاد يفوق التحمّل. ومدى تأثير كل هذه الوسائل في مستخدميها ومتلقّيها على حد سواء، ننتظر وننظر ونرى. ننظر فيما حولنا، وننظر في دواخل أنفسنا.
أغلق الجهاز وأبعد الجوال
والخوف – ونحن إذ نتأمل ظاهرة الانتشار الرقمي الكاسح – أننا نلاحظ ملامح غربة تنمو بين الإنسان والقراءة بكونها التقاء بين قارئ قارئ ونص نص. نراها من حولنا وحتى ونلمسها في أنفسنا. كأنّ الدفق من وسائل التواصل الاجتماعي يستنزف طاقة الناس ويجعلهم قليلي الإقبال على القراءة. الذهن يتشتت ويضيق الصدر ويتناقص الصبر. ومع الوقت ربما يصبح حتى لملمس الورق الجميل نفسه غرابة ما. طوال النهار نلمس شاشات زجاجية صلبة وباردة. عكس الورق في كل شيء. ربّما يُحدث تغييراً في حواس لمسنا. إن شيئاً من هذا القبيل كان قد حدث في سنوات ذروة حضور التلفزيون وفي الساعات الطوال التي يصرفها الناس في بيوتهم أمامه. وبدأ الكثيرون التنبه إلى الآثار السلبية التي تحدثها هذه الممارسة على الحياة الأسرية والاجتماعية. مما كان يقال أن الرجل يعود إلى بيته من عمله، ويجلس أمام التلفزيون حتى يحين وقت النوم. وهذا كان يُفقِده أموراً مهمة في الحياة مثل الحديث مع الآخرين وكذلك فتح كتاب أو مجلة للقراءة. وأطلقت صيحات لإقفال التلفزيون وتحديد برامج معينة لمشاهدتها. الآن الوضع من بعض جوانبه أسوأ بكثير. فالمشهد الطاغي على صور الناس وخصوصاً الشباب، هو جوال في اليد ووجه منصب بكليته عليه، مراسلة وقراءة وغير ذلك. لا شك في أنه، كما كانت هناك دعوات لإقفال التلفزيون يجب أن تُطلَق دعوات لوضع الجوَّال كما الأجهزة الإلكترونية الأخرى جانباً. الحقيقة أن تُبعَد عنا ولساعات عديدة كي نتفرغ أكثر للحديث معاً والتأمل ناهيك بالسير أو الرياضة هواية وصحّة، لكن أولاً وقبل كل شيء العودة إلى أحضان متعة القراءة.
إنقاذ الجريدة تحدٍ للقراءة أيضاً
لا شك في أن تجديد الرغبة في قراءة الجريدة اليومية على قطاع واسع، هو من أول شروط إعادة الزخم إلى القطاع الصحافي. لكنه لا يأتي بسهولة ولا يكفي وحده. على الجريدة أو المجلة أن تحقق إعادة نظر جذرية في كل جوانب الخدمة الصحافية التي تقدمها. في شكلها ومضمونها وإيقاع نورها ورسومها ونصوصها. عليها أن تَعبُر، بكل ما لها وبها، إلى العصرالحديث، بالأحرى إلى الدنيا الرقمية الجديدة. وأن تتعايش مع عالم الإنترنت والتواصل الاجتماعي وتستوعبه بشكل أو بآخر.
وما تحقق في هذا الاتجاه بالوجود الورقي الرقمي في العالم،
كميل حوا
جريدة النهار
٩ يناير ٢٠١٨
No Comments